أبو بكر الجزائري: عالم الوسطية

أبو بكر الجزائري: العالم والمفكر والداعية المربي

يُعدّ الشيخ أبو بكر جابر الجزائري من أبرز العلماء المسلمين في القرن العشرين، الذين جمعوا بين العلم والتعليم والدعوة إلى الله على بصيرة، بأسلوب رصين قائم على التدرج والحكمة والموعظة الحسنة، بعيداً عن الغلوّ والتنطع، ومنسجماً مع منهج أهل السنة والجماعة. وقد امتد عطاؤه الدعوي والعلمي إلى أكثر من نصف قرن، أثرى فيها الساحة الإسلامية بمؤلفات علمية قيّمة، وخطب مؤثرة، ودروس منتظمة في المسجد النبوي الشريف، أثّرت في أجيال من طلاب العلم والدعاة.

تجلّت شخصيته في سمو خُلقه، واعتدال فكره، وثباته على المبدأ، وإخلاصه في الدعوة إلى الله، مما جعل له مكانة كبيرة في قلوب الناس، واحتراماً واسعاً في أوساط العلماء والدعاة وطلبة العلم. يُعدُّ من الأصوات الوسطية التي كانت ذات أثر عميق في محاربة التطرف والغلو، داعياً إلى فهم الإسلام على ضوء الكتاب والسنة، بفهم سلف الأمة.

النشأة والتكوين العلمي

وُلِد الشيخ أبو بكر جابر الجزائري في قرية “ليهْلَة” القريبة من مدينة بسكرة في الجزائر، عام 1921م (1339هـ)، في بيئة ريفية بسيطة، تغلب عليها القيم الإسلامية والعادات الاجتماعية المحافظة. بدأ تعليمه مبكرًا في الكُتّاب، حيث حفظ القرآن الكريم على يد شيوخ القرية، ثم انتقل إلى مدينة بسكرة لمواصلة تعليمه الديني، حيث تعرّف هناك على أساسيات العلوم الشرعية كالفقه، والتفسير، والحديث، والعقيدة، والسيرة، واللغة العربية.

في فترة شبابه، انتقل إلى العاصمة الجزائر، حيث التحق بمدارس دينية تقليدية، ونهل من علماءها، ولكن سرعان ما شعر بضرورة الانفتاح على المدارس العلمية ذات الطابع السلفي المعتدل، مما قاده لاحقًا إلى الهجرة إلى المدينة المنورة في المملكة العربية السعودية بعد اشتداد الاستعمار الفرنسي على الجزائر.

الهجرة إلى المملكة العربية السعودية

عقب اشتداد الحملات الفرنسية ضد العلماء والدعاة في الجزائر، وخاصة أولئك الذين يناهضون الفكر الاستعماري والتغريبي، قرر الشيخ أبو بكر الجزائري ترك بلاده واللجوء إلى المدينة المنورة، فهاجر إليها في مطلع الخمسينيات الميلادية، حيث استقر في طيبة الطيبة، وبدأ مشواره الجديد في العلم والدعوة والتعليم.

في المدينة المنورة التحق بمدارسها النظامية، وشرع في تعليم الطلاب المسلمين من مختلف الجنسيات، خاصة بعد افتتاح الجامعة الإسلامية عام 1961م، حيث كان من أوائل الأساتذة الذين التحقوا بالتدريس فيها. وكان له دور بارز في نشر العلم، فقد درّس في الجامعة الإسلامية قرابة نصف قرن، كما كان له درس يومي في المسجد النبوي الشريف استمر لعقود طويلة.

منهجه العلمي والفكري

اعتمد الشيخ أبو بكر الجزائري منهجًا علميًا سلفيًا معتدلاً، يرتكز على العودة إلى الكتاب والسنة، بفهم سلف الأمة، دون تعصب مذهبي أو تحزب فكري. كان يحرص على تعليم الناس الإسلام النقي، ويدعو إلى التوحيد الخالص، محذرًا من الشرك والبدع، ومركّزًا على تصحيح العقيدة وتزكية النفس.

من أبرز ملامح منهجه:

• الاعتدال في الفكر، والبعد عن الغلو أو التفريط.

• الاهتمام بالعقيدة الصحيحة، وبيان معاني التوحيد بأبعاده الشاملة.

• الاعتماد على الدليل من القرآن والسنة، وتربية الناس على فهم النصوص فهمًا سليمًا.

• النصح للأمة وولاة الأمر، دون خوض في الفتن أو الدعوة إلى التمرد.

• الابتعاد عن السياسة الحزبية، والتركيز على إصلاح الفرد والمجتمع بالتعليم والدعوة.

لقد كان يؤمن بأن التغيير الحقيقي يبدأ من الفرد، ويُبنى على أسس من العلم واليقين، ويستند إلى أساليب سلمية قائمة على التربية والإقناع.

مؤلفاته وأعماله العلمية

ترك الشيخ أبو بكر الجزائري عددًا كبيرًا من المؤلفات العلمية، التي تتنوع بين العقيدة، والتفسير، والسيرة، والوعظ، والتربية، والتعليم. وتمتاز كتبه بالأسلوب السهل المباشر، مع التزام الدقة العلمية، مما جعلها تحظى بقبول واسع، وتُدرس في العديد من الدول الإسلامية.

من أشهر مؤلفاته:

ويُعتبر كتاب “منهاج المسلم” من أكثر كتبه انتشاراً وتأثيراً، حيث طُبع عشرات المرات، وتُرجم إلى عدة لغات، وأصبح مرجعًا تربويًا وعلميًا في البيوت والمساجد والمدارس الإسلامية.

دوره في التعليم والدعوة

لا يمكن الحديث عن الشيخ أبو بكر الجزائري دون التطرق إلى دوره الرائد في المسجد النبوي الشريف، حيث ألقى دروسًا يومية لعقود من الزمن، حضرها آلاف الطلاب من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. وكانت دروسه تتميز بالمنهجية، والوضوح، والتركيز على التزكية والتربية الإيمانية، إضافة إلى تبسيط العلوم الشرعية للناس.

كما ساهم بشكل فعّال في نهضة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وكان أحد مؤسسي نهجها السلفي المعتدل، وأسهم في إعداد أجيال من العلماء والدعاة الذين عادوا إلى بلدانهم يحملون رسالة الإسلام الصحيح.

لم يكن الشيخ مقتصرًا على التعليم الأكاديمي، بل كان واعظًا بارزًا، يخطب الجمعة، ويكتب المقالات، ويلقي المحاضرات، ويتفاعل مع قضايا الأمة من خلال موقعه في المسجد النبوي، ملتزمًا بثوابت الشريعة، مبتعدًا عن الخطاب السياسي أو الحزبي.

مواقفه من القضايا الفكرية والشرعية

كان الشيخ أبو بكر الجزائري واضحًا في مواقفه من القضايا الفكرية والشرعية المعاصرة، فقد حذر من البدع والخرافات، ونبّه إلى خطر الجماعات المتطرفة، ودعا إلى الالتفاف حول العلماء الثقات وولاة الأمور، مستندًا إلى أدلة شرعية راسخة.

وقد عُرف عنه انتقاده للجماعات التي توظف الدين لأغراض سياسية، دون أن يخوض في مهاترات أو تنازع، بل كان يدعو إلى تصحيح المفاهيم، وتقديم البديل الشرعي الواضح، القائم على التوحيد، والسنة، والوسطية.

ومن أبرز مواقفه:

• دعوته إلى التوحيد الخالص ونبذ الشرك والبدع.

• تحذيره من الانحرافات الفكرية التي تقود إلى الغلو أو الانحلال.

• دفاعه عن منهج السلف الصالح، ورفضه للتعصب للمذاهب أو الشخصيات.

• نصيحته لطلبة العلم بالتحلي بالأدب، والصبر، ومواصلة التعلم المنهجي.

خصاله الشخصية وأخلاقه

كان الشيخ يتمتع بصفات أخلاقية عالية، جعلته محبوبًا من الناس، ومصدرًا للثقة والاحترام. ومن أبرز خصاله:

• التواضع: كان يجلس بين طلابه كأحدهم، ويعامل الجميع دون تكلّف.

• الزهد: عاش حياة بسيطة، بعيدًا عن مظاهر الترف والرفاه.

• الجدية والانضباط: لم ينقطع عن التدريس إلا لمرض أو ظرف قاهر.

• الصبر والحلم: كان يتحمل أذى الجهلة والمخالفين بصدر رحب.

• الإخلاص: لم يسعَ للشهرة أو المناصب، بل جعل عمله لله وحده.

وفاته وإرثه العلمي

في يوم الأربعاء 4 ذو الحجة 1439هـ، الموافق لـ 15 أغسطس 2018م، تُوفي الشيخ أبو بكر جابر الجزائري عن عمر ناهز 97 عامًا، بعد رحلة طويلة من العطاء العلمي والدعوي. وقد صُلِّي عليه في المسجد النبوي الشريف، ودُفن في بقيع الغرقد، حيث دفن كثير من الصحابة والعلماء.

وقد خلف وراءه إرثًا علميًا ضخمًا، يتمثل في مؤلفاته، وأشرطته، ودروسه، ومئات من طلاب العلم الذين نشروا فكره ومنهجه في العالم الإسلامي، ولا تزال كتبه تدرّس في العديد من الجامعات والمعاهد الشرعية.

أثره في العالم الإسلامي

أحدث الشيخ أبو بكر الجزائري تأثيرًا كبيرًا في أوساط الدعاة وطلبة العلم في العالم الإسلامي، لا سيما في أفريقيا، والمغرب العربي، ودول الخليج، وجنوب آسيا. وقد تبنّى كثير من طلابه منهجه الوسطي، وحرصوا على نشر كتبه، مما جعله من العلماء المؤثرين في صياغة الفكر الإسلامي الحديث، خاصة فيما يتعلق بتعليم العقيدة السليمة، والتربية الإسلامية المعتدلة.

الخاتمة

يُعد الشيخ أبو بكر جابر الجزائري نموذجًا للعالم الرباني الذي جمع بين العلم والعمل، وبين الفقه والدعوة، وبين التربية والتعليم. عاش حياته في سبيل الله، يعلّم ويربّي ويهدي الناس إلى صراط مستقيم، فاستحق محبة الناس واحترامهم، وترك بصمة واضحة في التاريخ الإسلامي الحديث.

لا يمكن اختزال حياة الشيخ الجزائري في سطور، لكن تاريخه ومؤلفاته، وأثره التربوي والفكري، ستظل شاهدة على سيرته العطرة، وعلى منهج عالمٍ مخلصٍ رفع راية الإسلام الصحيح، وبلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

المصادر والمراجع:

1. كتاب: منهاج المسلم – أبو بكر جابر الجزائري – دار الفكر.

2. موقع الأرشيف الإسلامي – سير علماء القرن العشرين.